فضاء حر

شاي في منزل رئيس حكومة محاصر من مسلحين ممسوسين ب”فوبيا الهروب”!

يمنات
شربنا الشاي في منزل رئيس الحكومة المحاصر خالد بحاح. زرناه ظهر اليوم. كنا، من يظهرون معه في هذه الصورة وزميل سابع التقط هذه الصورة وأفضل، راهنا، عدم ذكر اسمه لأسباب فنية (تتعلق بمهارته طبعا كما لا يخفى على الأصدقاء هنا!)
صار منزل رئيس الحكومة مزارا على ما بدا لي ساعة دخلناه. كان هناك في صالون المنزل نحو 12 شخصا من الجنسين، ومن اجيال وتيارات متنوعة يطوقونه في المنزل المطوق ليل نهار من قبل المسلحين الحوثيين. دعانا مدير مكتبه إلى الانتظار في الصالة ريثما ينتهي بحاح من لقائه.
عند انتهائه من اللقاء غادر الجميع وبقي الأستاذ أحمد كلز القيادي في حزب التجمع الوحدوي اليمني (حزب الراحل عمر الجاوي). ألح الزميل المصور فؤاد الحرازي عليّ لمبارحة زملائي والدخول إلى الصالون ليلتقط لي صورة رفقة آخر شخصين في الصالون (بحاح وكلز). لبيت طلب الحرازي بعد تردد، تردد لم يكن سببه بالتأكيد مهارة رفيقنا الذي تكفل بالتقاط الصور لاحقا، فلم تكن مهارته محل شك أي منا لحظتها.
قلت للأستاذ أحمد كلز أنني انتقدت سلوك الأحزاب، وبخاصة حزبه، جراء ما يفعلونه في موفنبيك. رد مبتسما، بان أي نقد يصدر مني هو محل تقدير وترحيب لأنه يثق بسلامة دوافعي.
غادر كلز المنزل، وتفرغ بحاح لنا. خلال ما يقرب من الساعة تحدث كرجل دولة جاء من العالم الجديد إلى صنعاء في مهمة انقاذية بعد أنهيار حكومة الوفاق في قلب “العالم القديم” جراء اجتياح الحوثيين، القادمين من “الأرض المحرمة”، للعاصمة. جاء ليشكل حكومة شراكة تعكس بنود “اتفاق السلم والشراكة” الذي جرى التوقيع عليه مساء 21 سبتمبر بعد أن استكمل الحوثيون سيطرتهم على صنعاء.
يعرف خالد بحاح كيف يعرض تجربته بسلاسة ومنهجية مثيرتين للإعجاب. (وبينما كان يعرض تجربته هجس في خاطري، مرارا، ان الرجل لديه “عقل مخطط” خلاف السائد في الواجهة السياسية والحكومية والحزبية في اليمن.
علاوة على أن أسابيع من الإقامة الجبرية في منزل انتقل إليه عقب محاولة اغتياله يوم 19 يناير الماضي، راكمت لديه خبرة جديدة (كيف يمكن عرض موضوع شديد التعقيد والحساسية على زوار متنتوعين بتركيز وبالطريقة الملائو لإيصال رسائله إليهم).
مستفيدا من خبرته الدبلوماسية، تتالت رسائله للصحفيين الذين يزورونه، بذكاء وأناقة وبأقل قدر من التوتر. حتى لحظاته الصعبة في الساعات الاولى ل”الانقلاب” _ وهو بالمناسبة أول مسؤول يمني وصف ما جرى في صنعاء بأنه انقلاب_ رواها بأقل منسوب من محمولات الغضب.
يعرف بحاح خطورة الانسياق وراء ردود أفعال متوترة ضدا على الأفعال الخرقاء للحوثيين. وهو على أية حال خبرهم في زمن قياسي إلى أن اضطر إلى الاستقالة في اللحظة التي كان بقاؤه، يوما اضافيا واحدا، على راس حكومة شراكة بلا أي شريك، سيثير لغطا حول اسمه وسجله المهني. كان كل شيء له علاقة بالحكومة وبفرص ممارستها السلطة الاجرائية قد انتهى. كان رئيس الجمهورية نفسه قيد الاقامة الجبرية، ومقرات السلطة ورموز السيادة تضرب، بالمعنيين المادي والمعنوي، بالرصاص.
يمكن اعتبار بحاح “بطلا اوليمبيا” على الطريقة اليمنية. فهو الرئيس الذي ناشده أطراف اتفاق السلم والشراكة، يمن فيهم الحوثيون، ان يقبل المهمة لأن ما من بديل سواه يقبل به الجميع. لكنهم لم يصبروا عليه أكثر من أسابيع. وهو قال، ساخرا، بأن الحوثيين حطموا رقم أسلافهم في صنعاء. فالحكومة السابقة (التي كان للإصلاح موقع متميز فيها) تحملته، كوزير للنفط، 3 أشهر بالتمام قبل ان يضطر إلى الاستقالة.
لخالد بحاح خصوم كثيرون على ما يبدو. ومن المثير حقا أن موقع رئيس حكومة في “الأرض المحرمة” ما يزال محط تنافس وأطماع! والأكيد انه تحلى بالمسؤولية خلال فترة رئاسته (القصيرة جدا) لحكومة شراكة يفترض ان تعمل بدعم من أطراف اتفاق السلم والشراكة. وقد الزمته المسؤولية ان يستقيل عندما كان الواجب يملي عليه ان يغادر موقعه. ومن حسن حظ اليمنيين أنه فعل!
يذكر رئيس الحكومة المستقيل بحضرمي آخر رأس حكومة يمنية في التسعينات. كان الرئيس صالح في انتخابات برلمان 1997 قد قرر التخفف من حليفه في حرب 94 (التجمع اليمني للإصلاح). وقد حرص أن يأتي برئيس حكومة حسن السمعة ويتمتع بكفاءة عالية. وهو اختار فرج بن غانم لهذه المهمة التي توفر غطاء مناسبا لرئيس تخلى في ظرف 7 سنوات عن حليفين متعاقبين (عن شريك وحدة 22 مايو، الحزب الاشتراكي، وشريك حرب 94 التجمع اليمني للإصلاح). قبل فرج بن غانم المهمة بشروط وافق عليها صالح. لكن الرئيس الذي استخلص “اليمن الكبير” لنفسه، لم يتحمل رئيس الحكومة الرفيع الذي يحترم كلمته ويجسدها في سلوكه كرجل دولة. وقد اضطر فرج بن غانم إلى الاستقالة بعد أن فقد أي أمل في أن يتكيف الرئيس صالح مع متطلبات الحد الأدنى لدولة سيادة القانون. لم يكمل الرجل 9 أشهر حتى استقال.
يبدو خالد بحاح أسوأ حظا. فهو جاء لقيادة حكومة في ظل فاعل اجتاح العاصمة ب”عضلاته” ومن دون أي غطاء ديمقراطي. وهذا الفاعل أظهر نفاد صبر حيال الحكومة منذ الأسبوع الأول. بل ومارس ما يمكن اعتباره “سلوكا ثورجيا بلطجيا” ضد الوزراء، وواصل اجتياح محافظات أخرى في اليمن انطلاقا من العاصمة بالخلاف لما ينص عليه اتفاق الشراكة في ملحقه الأمني. لم ينسحب الحوثيون من العاصمة وعمران القريبة، وإنما تغلغلوا في مؤسسات الدولة ونشروا ما يسمونها “اللجان الثورية” واسقطوا محافظات أخرى تحت غطاء السلم والشراكة.

في 21 يناير كان الحوثيون يطالبون الرئيس هادي بان يضع راسه تحت المقصلة. أرادوا منه أن يعين نائبا له من بينهم. وقد قرروا نيابة عن الشعب اليمني من يكون هذا النائب الذي سيرث الرئيس في حال اضطروا الى التخلص منه.
تسلم الرئيس هادي استقالة رئيس الحكومة. ثم قرر في ظرف ساعة أن يستقيل لانه فعليا لم يعد قادرا، بأي معنى على الوفاء بواجباته كرئيس طليق، حر الإرداة.
***
كان الوقت يمضي بسرعة. وقد قدم مساعدو رئيس الحكومة الشاي. وبينما كان يصغي الى تعليقات وأسئلة ضيوفه، كان أثر خروج الرئيس هادي ووزير الدفاع محمود الصبيحي باديا على المسلحين الذين يطوقون منزله. من وقت إلى آخر كان أحدهم يفتح الباب الداخلي للمنزل، ليتأكد أن رئيس الحكومة ما يزال هنا. ولم ينتقل بفعل معجزة ما، إلى عدن!
وعلى الأرجح فإن الحصار يشتد على بحاح بعد تمكن الرئيس ووزير الدفاع من الانتقال إلى عدن بطريقة اعجازية. [امازح اصدقائي الحوثيين بالقول إن الرئيس هادي واللواء الصبيحي يتمتعان بتأييد إلهي وإلا كيف تمكنا من كسر الحصار المفروض عليهما من جماعة تضج ليل نهار بأنها مؤيدة من السماء!].
***
رئيس الحكومة الذي اتصل به الحوثيون ليقبل الموقع _ حسبما أكد لي صديق من الجماعة اتصل به شخصيا الى مقر عمله السابق في الضفة الأخرى من “عالم اليمنيين” الموحش والمضطرب والغارق في الدم والدموع، ما عاد حرا حتى في حدود جدران المنزل الذي يقيم فيه. هناك مسلحون متوترون يتعاقبون على فتح باب المنزل ليتأكدوا من انه هنا. وأن “الجن” لن ينقلوه في غمضة عين من “العاصمة المحتلة” إلى جنة عدن.
***
كان هناك زوار اخرون في الانتظار. وقد استأذناه في المغادرة. كان هناك حضرمي ثالث، بعد بحاح وفرج بن غانم، يوشك على الدخول في المشهد!
رئيس الحكومة، الجلد والهادئ والديبلوماسي، وقف ليودعنا. وهو عرض علينا وهو يصافحنا، واحدا تلو الآخر، أن نبقى للغداء. فلمع في خاطري مشهد مع حضرمي استثنائي زرته في فبراير 2008 في منزله في البريقة بمحافظة عدن. وقد قلت لمضيفنا انني تذكرت للتو لقاء شائق اجريته، كصحفي، مع فيصل بن شملان رحمه الله، في منزله. بعد نحو ساعتين، انهيت اسئلتي، واستأذنته في المغادرة بشكل مباغت، وهو رافقني إلى حوش منزله مودعا، وبينما كنت أوشك على مغادرة الحوش، إذا به يدعوني إلى البقاء لاتناول معه الغداء. كانت قدمي اليمنى خارج الحوش فعليا (!). اعتذرت له بشدة لان اصدقاء في عدن ينتظروني لنتغدى سوية. قال لي، وهو يضحك:”معليش يا سامي. هذه عزومة وفق التقليد الحضرمي”!
[كان ابن شملان يشير إلى النكت الرائجة عن الحضرمي إذ يدعو ضيفا او زائرا الى تناول الغداء في منزله، أي “عزومة مراكبية” كما يقال في مصر، وهذه الصورة النمطية عن حضرموت هي مجرد زعم له صلة بالتفاوت بين الحواضر والريف في اليمن. وحضرموت هي المنطقة التي تضم أكبر عدد من الحواضر في اليمن. والحواضر مرتبطة بالرشد وتقاليد اجتماعية وعادات استهلاكية تتسم بالانضباط والتنظيم بالقياس إلى البوادي والأرياف] رويت لرئيس الحكومة خالد بحاح ما جرى قبل 7 سنوات في مدينة أقل جهامة وفي ظروف وردية بالقياس الى ما يجري في محيط منزله. وكانت تلك لحظة مغادرة مكسوة بالقهقهات لرئيس حكومة متماسك، ذهنيا وبدنيا، يطوقه مسلحون يعانون من عقدة جديدة تجتاح العاصمة منذ 3 أسابيع يمكن ان نسميها، مؤقتا وإجرائيا، ب”فوبيا الهروب إلى عدن”!
من حائط الكاتب على الفيس بوك

زر الذهاب إلى الأعلى